صورة رائعة ، نادرة جدا للرجل الرمز ، دا لمولود معمري رحمه الله ، و هو يجمع التراث الأمازيغي مع شيخ قد يكون من سكان منطقة تيڨورارين ( ڨورارة ) حسب هيئته و ملامحه ، و هي منطقة تقع شمال ولاية أدرار اليوم ، 1000 كم جنوب العاصمة ، في قلب الصحراء …. منطقة عاصمتها التاريخية مدينة تيميمون … منطقة لا يزال أهلها إلى اليوم يتكلمون الأمازيغية الزناتية ….. منطقة تجري دماء أهلها في عروقي ، فجدة والدي رحمها الله تنحدر منها ، و جدي رحمه الله ولد في تيميمون ……
دا لمولود رحمه الله ، الذي يعتبر رمزا من رموز بلدنا ، حمل على عاتقه جمع التراث الأمازيغي الهائل ، الذي ضل شفويا لآلاف السنين … و تناقله أجدادنا جيلا بعد جيل دون أن يتم تدوينه …. تراث موزع عبر كل ولايات الوطن ، من قمم أوراس إلى قمم بني سنوس … و من سواحل تيبازا إلى قلب صحاري أدرار و غرداية و ورڨلة و تامنغست …. تراث أيقن دا لمولود أنه سيندثر حتما مع رحيل كبار السن …. و ستفقد الجزائر مع اندثاره هويتها و ذاكرتها و روح شعبها ….. فانطلق في رحلة قادته إلى الجهات الأربع من الوطن لتدوين كل ما يستطيع : مفردات ، أشعار ، ألغاز ، حكايات ، أساطير ، أسماء أماكن ، عادات و تقاليد … إلخ …….
الرائع و المذهل في الأمر ، أن دا لمولود لم يكن عالم لسانيات في الأصل ، بل أستاذا ….. و لم يموله أحد في أبحاثه ، بل كان يقوم بها بمجهوده الخاص ، و رغم كل الصعاب و العراقيل ….. دا لمولود الذي بدأ بتدريس الأمازيغية في جامعة الجزائر بصفة رسمية ، ثم بصفة سرية بعد أن تم إلغاء مادة الأمازيغية لقلة الإهتمام بها …. و لمحاولة طمسها من نظام الرئيس بومدين رحمه الله ، الذي كان له توجه عروبي قومي …. آنذاك كان الوزير أحمد طالب الإبراهيمي ، هو من يوفر الحماية و الغطاء لضمان سرية دروس دا لمولود ……… التي كان يلقيها في نفق الجامعات …. غار حراك اليوم …. و ما أشبه الأمس باليوم …..
دا لمولود الذي ينحدر من منطقة القبائل ( ولاية تيزي وزو ) ، كان يدرك أن لهجات شمال الجزائر ، خاصة القبايلية ، و الشاوية بدرجة أقل ، تأثرتا كثيرا بالعربية ، و أصبح تقريبا ثلث مفرداتها عربيا …. فقرر التوجه نحو الصحراء ، لأنه كان يعتقد أن اللهجات الأمازيغية في الصحراء حافظت على المفردات الأصلية القديمة ، لذلك ركز أبحاثه في منطقتي ڨورارة ( زناتية تيميمون ) و عند التوارڨ ، حيث أصدر معجما تارڨيا فرنسيا ، و كتابه الشهير حول أهليل ڨورارة ، المديح الأمازيغي الزناتي … الذي هو اليوم تراث عالمي لليونسكو يصنع فخر الجزائر ……. و لو أنني كنت أتمنى أن يتوجه دا لمولود إلى الأطلس البليدي و جبال الظهرة و وارسنيس … المناطق القريبة من العاصمة و المهمشة ….. التي تتميز لهجاتها الأمازيغية بثرائها و غناها بالمفردات الأصيلة و القديمة …..
دا لمولود الذي كان رجلا عظيما ، أصيلا …. كان مسلما قوي الإلتزام بتعاليم الدين ، كما كان أجداده من عرش آث يني التاريخي ….. و هو الذي اشتهر بمقولته الخالدة : ” لقد حرر الإسلام الأمازيغ ، و أصبح مكونا مهما جدا من مكونات هويتهم ، و أعطاهم القوة اللازمة للصمود في وجه الغزاة ” ….. دا لمولود الذي كان يحترم جدا اللغة العربية ، و هو الذي كان يتأسف أنه تلقى تكوينه بالفرنسية في زمن الإستعمار ، و أبدى رغبته الشديدة في التكوين بالعربية أكاديميا ، لكن الأجل كان أسرع من أحلامه ….. دا لمولود الذي عاش في زمن بن بلة و بومدين و شادلي رحمهم الله ، الزمن الذي كان فيه القمع يطال كل ما هو أمازيغي …. لكنه لم يطعن فيهم أبدا ، و لم يدلي أبدا بتصريحات عنصرية ، و لم يتدخل أبدا في السياسة …. بل واصل العمل في صمت ، و بإخلاص … من أجل ثقافة أجدادنا …..
دا لمولود الذي أعاد بعث الهوية الأمازيغية ، بفضل عمله الميداني الهائل ، و تفانيه و إخلاصه و حكمته …. للأسف توفي يوم 26 فيفري 1989 إثر حادث مرور بولاية عين الدفلى ( بلدية سيدي لخضر ) و عمره آنذاك 70 سنة …. رحمه الله تعالى ، و لم يكمل عمله الموسوعي للأسف …. لكن الكارثة الحقيقية ، هي أن مشعل دا لمولود لم يستلمه أحد …. و رغم كثرة الباحثين و الأكاديميين في المجال الأمازيغي ، إلا أنه ولا واحد فيهم توفرت فيه كل خصال دا لمولود : العمل الميداني ، التنقل إلى الصحاري و الجبال ، الحكمة ، الإتزان ، البساطة ، العزيمة ، الإخلاص ، الوطنية ، الوسطية ، الإعتدال ، الابتعاد عن السياسة و إثارة الجدل ….. و رغم مرور 30 سنة عن وفاة دا لمولود رحمه الله ، إلا الأمازيغية لا تزال ثاڨوجيلث ( يتيمة ) أبيها الروحي …. لمولود آث معمر رحمه الله تعالى …….
أتمنى من صميم قلبي ، أن يستلهم كل من يدعي حب الأمازيغية ، و النضال من أجلها ، من قيم دا لمولود رحمه الله تعالى ، أن ينتزعوا الأمازيغية من براثن العنصريين و دعاة الكراهية و الحقد ، و الذين يروجون للأمازيغية بسب العربية و الإسلام ، أو لتقسيم الوطن ، أو الذين يجعلون من الأمازيغية أداة لمسخ أعرافنا و قيمنا و تقاليد أجدادنا … و تعويضها بثقافة فرنسا و هوية فرنسا … التي دفعنا 10 ملايين شهيد طيلة 132 سنة ، حتى نطردها من أرضنا …. أتمنى أن يتفق مناضلوا الأمازيغية حول خطاب موحد ، حكيم وطني جامع ، مستوحى من هويتنا الحقيقية الأصيلة ، من قيم و مبادئ دا لمولود رحمه الله …. أن يروجوا للأمازيغية باحترام العربية و الإسلام … حتى يعلم كل الجزائريين أن الأمازيغية تجمعنا جميعا ، و توحدنا جميعا ، كما يوحدنا الإسلام و العربية و الإنتماء للجزائر ….
منذ سنين طويلة و أنا أناضل في سبيل ذلك ، مستلهما من قيم و مبادئ أجدادي ، من تربية والدي ، من حبي لوطني الغالي … و من تعلقي الشديد برموز شعبنا …. من يوغرطة إلى دا لمولود … مرورا بطارق بن زياد و يوسف بن تاشفين و يغمراسن بن زيان و المقراني و البركاني و الأمير عبد القادر و الشيخ آمود و فاطمة نسومر و اين باديس و العربي تبسي و بن بوالعيد و بن مهيدي و عميروش و سي امحمد بوڨرة …. و الفضيل الورثيلاني ، العالم المجاهد الأديب الأمازيغي الأصيل …. الذي كتب النص الذي اقترح في شهادة البكالوريا أول أمس ، و الذي حاول بعض المراهقين و المندفعين استغلاله خدمة لإيديولوجياتهم …. القومجيون العروبيون اعتبروا النص نصرا مبينا و دليلا على طمس أمازيغيتنا إلى الأبد … و البربريستيون المتطرفون اعتبروه تزويرا للتاريخ و إجحافا في حق الأمازيغية ، و بادرة لسحبها من الدستور ……
و الحقيقة أن الحق جانبه تماما المعلقون …. من الطرفين … لأن النص جاء لإبراز دور اللغة العربية في بناء هويتنا ، و كوسيلة لمقاومة المستعمر الفرنسي الذي أراد فرض الفرنسية لطمس هويتنا و فصلنا عن إسلامنا ….. و لم ينكر الورثيلاني أبدا أمازيغية شعبنا … و هو الذي كان من مؤسسي جمعية العلماء المسلمين … و أول من سن إلقاء دروس الجمعة بالأمازيغية ….. كما لا يمكن لعاقل إنكار أن اللغة العربية لغة قرآننا و حبيبنا صلى الله عليه و سلم ، و أن أجدادنا اختاروها منذ 13 قرنا كلغة علم و إدارة ، و أن الأمازيغ خدموا العربية أكثر من كل شعوب العالم ، بل أكثر من العرب أنفسهم ….. و لا يوجد أي خلاف أو صراع بين العربية و الأمازيغية ، و لا يريد خلق الصراع إلا المتطرفون من الجهتين و دعاة الحقد و الكراهية ، و الذين يريدون تقسيم شعبنا و ضرب وحدة حراكنا ….. و كما أقول دائما : الأمازيغية لغة أرضنا و أجدادنا ، و العربية لغة قرآننا و حبيبنا صلى الله عليه و سلم ، و لا حياة لواحدة دون الأخرى على أرضنا …… و كما قال إمامنا عبد الحميد بن باديس الصنهاجي الأمازيغي : ما جمعته يد الله لن تفرقه يد الشيطان !!!!
الكثير طلب مني التعليق على الموضوع ، فلم أجد ردا أفضل من صورة دا لمولود رحمه الله تعالى … الذي أفنى حياته كلها في خدمة الجزائر الغالية …. أرض أجدادنا المسقية بدماء الشهداء و الأبطال
رحم الله دا لمولود و أسكنه فسيح جناته ، و جمعنا به في فردوسه الأعلى … و إنا على نهجه سائرون
حفظ الله أرض الأجداد
حرر من طرف معمر أمين بوسنة